ألبوم ليبيا: صور وحكايات من ليبيا - مؤسسة آريتي
ألبوم ليبيا: صور وحكايات من ليبيا - مؤسسة آريتي
الناشر: مؤسسة آريتي للثقافة والفنون 2023
تحرير: خالد المطاوع - طه الكريو - ليلى المغربي - ريم جبريل
الحجم: 30 سنتم * 30 سنتم
عدد الصفحات: 160
الغلاف: مجلد
كل مشروع فني مهما كان بعيداً عن تمثيله الواقع الذي نتج عنه هو بشكل ما تفاعل مع هذا الواقع.
يقول لنا نقاد أدب عصر النهضة في إنجلترا إن قصائد الحب المفرطة في الغرام التي كتبها شكسبير وغيره من شعراء الإنجليز حينها لم تكن محدودة بتجارب عاطفية وشخصية فقط، بل يجزمون بأن لتلك القصائد دوافع اجتماعية وسياسية تتزامن مع مشاعر العشق والغرام. كما نجد إجماعاً حول القصيدة العربية الحديثة يقر بأن الحركة الرومانسية التي مثلها أبو القاسم الشابي وعلي محمود طه هي وليدة الصراع مع الاستعمار والقوى التي تعرقل نهوض الأمة. ارتبط التوق للمحبوبة في تلك القصائد بالتوق للتحرر، لينْكسِر قيد الاستعمار ولِينْجلي التخلف الذي كبّل المجتمع في ظلام ليله. ولأن الحب هو أعلى حالات السمو البشري وجده الشعراء في كل زمان ومكان رمزاً مناسباً للقيم النبيلة وللسمو الذي يسعون لتحقيقه في كل جوانب حياتهم.
أما بالنسبة لهذا الكتاب فإننا نتمنى أن تدرك القارئة ويدرك القارئ وهو يتصفحه أن "ألبوم ليبيا" في مجمله رسالة حب لوطننا ولأهلنا ومواطنينا الليبيين، ولن يغيب عنهم أن هذه الرسالة الجماعية هي نتيجة تفاعل مع الوضع السياسي والاجتماعي المعاصر في ليبيا. وضعنا -الذي لا يخفى على أحد- هو حالة من التشظي والعبث وإهدار الفرص نتج عنها حروب ضاع فيها الكثير من الأبرياء الذين كانوا يتمنون مستقبلاً أفضل، ولعل أفدح ما عانيناه نحن الليبيين في هذه الآونة الأخيرة أننا تهنا عن أنفسنا، أو عن الذات التي كنا نعرفها والتي نطمح أن نكون. هذا الكتاب عزيزتنا القارئة وعزيزنا القارئ قصيدة حب جماعية أشعلتها شرارة الحسرة والشجن.
ولكن كما تُمكِّن الفنون أشخاصاً أو مجموعات من الناس من التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم في حقبة تاريخية معينة؛ فهي أيضاً تعطيهم الفرصة لإعادة النظر في الأحوال المحيطة بهم ولإعادة توجيه بوصلتهم العاطفية والمعرفية. أجل، إن الأوضاع في بلادنا سيئة، ولكن هل هذا كل ما لدينا لنقوله عن بلادنا؟ وهل هذا مدى خبرتنا بها؟ ماذا عن ذاكرتنا وآمالنا وكل ما مَنّ به علينا هذا الوطن وناسه؟ وماذا عن طبيعته وتاريخه وصحرائه وجباله وسمائه؟ هل نحصر البلاد فقط في حلبة يتصارع فيها القادة والسياسيون وحلفاؤهم وممولوهم الخارجيون؟ ماذا عن باقي الليبيين؟ كيف عاشوا وبماذا يفكرون؟ وما هي العوامل التي تبقيهم متشبثين ببلادهم سواء بقوا فيها أو اضطروا لتركها. أليس هناك شيء آخر نقوله عن بلادنا؟!
في حالة التشظي والتذمر المزمن التي نحن فيها مثلت هذه الأسئلة تحدياً فعلياً لنا، وتساءلنا ما هو الدور الذي يمكننا أن نقوم به بصفتنا مواطنين وفنانين لنعيد النظر او لنكتشف خبراتنا وإنسانيتنا المشتركة في ليبيا. بطبيعة الحال راودنا الشعور بأن الإجابة لا بد أن تكون عملاً فنياً يتجاوز اللحظة الراهنة، يفحص الماضي بعمق وينظر نحو المستقبل بقدر من الحياد، إن لم يكن الأمل. ولكن كيف؟ بعد حوارات متعددة والبحث في مبادرات شبيهة رأينا أن الإجابة لا بد أن تكون مبادرة متعددة الوسائط، بأسلوب يوثق الخبرة الليبية من وجهات نظر مختلفة، وبطابع بسيط وشخصي ومباشر. ماذا -سألنا أنفسنا- لو فتح مجموعة من الليبيين ألبومات صورهم العائلية وحكوا لنا عن حياتهم ليعرّفونا ما لا نعرفه عن ناسنا وبلادنا؟ عرضنا هذا السؤال على المشاركين في هذا الكتاب وكم سعدنا أنهم لبّوا دعوتنا واستضافونا في حياتهم.
يجمع كتاب ألبوم ليبيا صوراً وقصصاً من السير الشخصية للعديد من الأدباء والشعراء والفنانين والمثقفين الليبيين، في فسيفساء سردية تغطي جوانب متعددة من حياة الليبيين منذ منتصف القرن الماضي. يحاول هذا الكتاب عبر هذه القصص أن يعطي صورة مختلفة عن ليبيا، التي طالما تمت تغطيتها في الإعلام العربي والعالمي من وجهة نظر سياسية بحتة تركز على النفط والحكم الدكتاتوري والصراع على السلطة. هذا الكتاب إذن -عزيزتنا القارئة وعزيزنا القارئ- هو محاولة لإعادة النظر في ليبيا وللتصدي للصورة التي يرسمها السياسيون وصراعاتهم عنها، كما أنه محاولة لاسترجاع هذا المسؤولية وتسليمها لليبيين كأشخاص، لفنانيهم وأُدبائهم ليعطوا صورة إنسانية عن بلادهم.
تعطينا حكايات وصور ألبوم ليبيا التي تأتي من كل أنحاء البلاد انطباعاً حميماً يمثل تنوعنا الثقافي والعرقي والجغرافي، نجد في هذا الكتاب قصصاً عن أناس أحببناهم، وخبرات وفترات زمنية كونت عقولنا ووجداننا وأماكن تركت أثراً عميقاً فينا. كما تؤكد هذه الصور والحكايات أن الليبيين شعب متنوع الخبرات والطباع، يشارك الإنسانية همومها وآمالها وأفراحها ويعبر عن ذاته بنبرات تشمل الحنين والشجن والمرح والمفارقة.
ولعل التصور الذي يسعى هذا الكتاب لإعادة النظر فيه أكثر من غيره هو مفهومنا للانتماء، في ليبيا وتقريباً في كل دول منطقتنا يتنزل الانتماء من قمة المجتمع؛ أي من السلطة الحاكمة او المهيمنة إلى المواطنين، ويتم نشر هذا المفهوم بين المواطنين ودمجهم اجتماعياً وفقاً لذلك، عبر الكتب المدرسية ووسائل الإعلام والخطاب السياسي. تلقين الانتماء في هذه المجتمعات يهدف إلى تشكيل المواطنين في قالب فكري مماثل وهو تصور يجب عليهم الاستسلام له وألا يحيدوا عنه؛ على هذا النحو عندما يُسأل الأفراد عن سبب شعورهم بالانتماء والإيمان العميق ببلدهم فمن المتوقع أن يقدموا إجابات مماثلة، بل وإجابات فُرِض عليهم حفظها، وقد يتم معاقبتهم إذا قدموا إجابات غير مألوفة. هذا التلقين هو في الحقيقة تنشئة اجتماعية تتغلغل في المواطنين وقد تجعلهم يلومون أنفسهم إذا تساءلوا عنها، أو قد يشعرون بحرج إذا رأوا أنهم قصروا في حق الكيان الذي طالما قيل لهم إنهم ينتمون إليه.
وبهذا الصدد يذكرنا شاعرنا سالم العوكلي أننا نحن الليبيين في عهد الدكتاتورية، بل وفي أغلب دول منطقتنا "ظللنا نجتر روح القطيع ونضحي باستقلال ذواتنا" أمام رغبات الأمة كما تعبر عنها السلطة وخطابها المهيمن. بدون شك أن هذا التقزيم لانفراد الأشخاص والإقلال من شأنهم ومعاقبتهم إذا خرجوا عن الجموع كان له دور في تهرئ المجتمع ككل، فلا يمكن لأي انتماء أن يدوم إذا لم يتح للأفراد أن يعبروا عنه بطريقتهم الخاصة، فليس الانتماء أسطوانة مشروخة ترددها الجموع. المشاعر الحقيقية لا ترضى بتعابير قديمة ساكنة، لا بد أن تتجدد في كلمات وأنغام ورموز جديدة تواكب حياة الناس وتطوراتها وتغيراتها.
الانتماء لا بد أن ينبع من محبة الفرد لخبرته وللمكان الذي عاش فيه والناس الذين عرفهم فيه، وهو حب للزمن الذي أعطاه إياه القدر ليقضيه على هذه البقعة من الأرض حيث تبادل التراحم والود مع آخرين. الانتماء الذي ينبغي أن نسعى له هو نسيج حي من مشاعر حقيقية لأناس حقيقيين، يتكون من انطباعات مختلفة تتماسك باختلافها وتحيي ولاءنا للكيان الذي يجمعنا لأننا نجد فيه أسباباً ووسائلَ وأدلةً للتماهي. ننتمي للمكان معاً ليس بسبب الأساطير والمقولات الفضفاضة التي يلقنها المجتمع لنا؛ بل لأن لكل منا نشيده الخاص وحكايته الخاصة التي احتفظنا بها طيلة حياتنا ولها قيمة عالية تخصنا.
ألبوم ليبيا هو إذن تجسيد مبدئي لهذا التعريف للانتماء، قصص يحكيها الأفراد عن حياتهم، وصور تحتوي المحبة والبهجة والحنين والبوح والفقد وبعض اللوم والعتاب والمرح والانبهار والاكتشاف والامتنان لهذا الوطن الذي يسكننا، كما سماه الدكتور محمد المفتي المشارك معنا في هذا الكتاب. كما أن هذا الكتاب هو أولى الخطوات التي ننوي بها حفظ الذاكرة الوطنية، شخصاً بشخص، وصورة بصورة، لتكبر فسيفساء الوطن ولتتنوع السبل لمعرفة أنفسنا.
لا يسعنا نحن بوصفنا محررين إلا أن نشكر المشاركين في هذا الكتاب، منهم من قدم لنا صورته وحكايته مبكراً وانتظر عامين لتتجمع هذه الحكايات معاً، ومنهم من اكتشفنا حكايته في كتابات أخرى وأضفناها هنا، ومنهم من ألححنا عليها كثيراً لتكتب وعندما كتبت طلبنا منها المزيد، ومنهم من نفتقدهم الآن، سلموا لنا حكاياتهم كأمانات نحفظها وقضوا نحبهم قبل أن يرى هذا الكتاب النور. كل قصة كانت إضافة ثمينة لهذا الألبوم الذي بات سجلاً لعائلة كبيرة شعرنا بالانتماء لها لكثرة قراءتنا إياها وتأملنا في صورها.
كما نخص بالشكر فريق مكتب (حروف) للتصميم الغرافيكي الذين صبروا معنا حتى وصلنا معاً لتصميم نابع من جذورنا ويرتقي بها ليمثل تطلعاتنا. ونشكر كذلك الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)، خاصة برنامج شمال إفريقيا، الذين ثابروا معنا وساندونا مادياً ومعنوياً لتحقيق هذا المشروع. وأخيراً نشكركم أنتم أعزاءنا القراء لقدومكم لهذا التجمع ولرغبتكم في معرفة ليبيا عبر قصصنا وصورنا، فمرحباً بكم في ألبوم ليبيا.